إن تكرار التعاطي واستمراره وارتباط ذلك بالتركيبة الكيمائية في المخدرات الطبيعية أوالمصتّعة وتأثيرها في الجهاز العصبي المركزي وتنشيطها للجهاز النفسي أثناء إساءة الاستعمال، لا يتم على مستوى ملايين المستعملين إلا في سياقات اجتماعية مختلفة متنوعة الثقافات سواء محبذة أو معارضة أو محايدة لاستعمال المخدرات المحظورة. وقد شاهدنا مجتمعات متقدمة أباحت قوانينها الجديدة تعاطي الحشيش تحت ضغط تغيّر الاتجاهات الثقافية في الرأي العام، وقد أثر ذلك بالفعل في الحركة التجارية والتسويقية للمخدر مما سيمتد أثره إلى أحجام العرض ومساحات الطلب. وبذلك نرى أن العلاقة متشابكة بين أبعاد ومتغيرات متشابكة بين مجتمعات قاربت بينها خطوط الاتصال والانتقال بشكل اختزل به الزمن والمسافات، فالعلاقة معقدة بين وفرة العرض وزيادة الطلب والإدمان أو الاعتماد على المخدر. فمن المؤكد أن التمكين من إعمال قوانين الحظر في أغلب الدول وحجم المضبوطات من المخدرات المحظورة يسبب زيادة في ارتفاع أسعار المواد المخدرة كالأفيون وهذا بدوره قد يقلل من أعداد المدمنين، ودرجة نقاوة المخدرات المستهلكة وحجم الكمية المستخدمة في الجرعة الواحدة. وقد يؤدي هذا إلى تحول نحو أنواع أخرى من المخدرات أقل سعرا وبطبيعة الحال أقل نقاوة وجودة وأكثر ضررا (Mohit 1996)
إن إعمال القانون ودور أجهزة العدالة الجنائية في مجال الوقاية والمكافحة محور أساسي لضبط إيقاع حركة سير المجتمع واستقراره واستمراره. ومن ثم فإن الهيئة القانونية وآليات العدالة وردود أفعالها في الأحكام وتأثيراتها في التعديلات التشريعية لا يمكن غض الطرف عنها عند المعالجة الدراسية لمشكلة المخدرات وتخطيط سبل الوقاية والعلاج فكل ذلك جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي الذي لا ينفصم عنه أي بعد من الأبعاد والعوامل الحيوية أو النفسية أو الثقافية أو الدينية أو الأخلاقية.
إن مآل تكرار التعاطي يجعل من الإدمان احتمالا أكبر بل مؤكدا بالنسبة للمخدرات القوية أو النفّاذة، خاصة أن هذا التكرار يوثّق الارتباط بالمخدر. وطبقا لتعريف منظمة الصحة العالمية WHO فإن إدمان المخدر أو الاعتماد عليه هو حالة من الخدر والتسمم المرحلي أو المزمن تنشأ بسبب استهلاك المخدر الطبيعي أو المصتّع وتتضمن خصائصه الآتية:
1- رغبة عارمة أو حاجة قهرية للاستمرار في تعاطي المخدر والحصول عليه بأي طريقة.
2- ميل واضح لزيادة الجرعة.
3- اعتماد جسمي ونفسي على تأثيرات المخدر.
4- نتائج وتأثيرات ضارة على الفرد والمجتمع.
فدون وضع العوامل الاجتماعية والبيئية في الاعتبار لا يمكن أن نحصل على تفسير سببي كامل لمسألة الإدمان، إذ المجتمع كموئل كبير هو الذي يحدد كلا من العرض والطلب للمخدرات، وهو الذي يقرّ معايير السلوك ذات الأهمية لفهم الاتجاهات ونماذج السلوك التي تقر الاستعمال للمخدر. وليس من السهولة بمكان أن نحدد أو نقيس النتائج والآثار لعدد من المتغيرات المعقدة والمتفاعلة التي تسهم في تكوين المجتمع، إلا أننا يمكننا التركيز على بعض الأبعاد المحورية في الحياة الاجتماعية، ومن أولها أثر تجزيء الهياكل البنائية ومدى فعالية الأسرة.
ويتبدى أثر تجزيء هياكل الحياة الاجتماعية في تداعيات الهجرة الداخلية من القرى إلى المدن الكبرى، وتكوين أحياء ومدن صغيرة عشوائية حولها، وتعتبر هذه من أهم عوامل زيادة الطلب وتهيئة تربة خصبة للعرض. كذلك يتبدى في تداعيات الهجرة الخارجية الدائمة أو المؤقتة إلى البلدان الغنية خاصة الدول النفطية، فترك رب الأسرة عائلته وغيابه مدة طويلة معوضا أبناءه بتدفق المال مما شجع اليافعين على الانخراط في نمط مشوش من الحياة من بينها آفة تعاطي المخدرات (Mohit 1996)
”
يمكن أن تكون الثقافة للأسرة والحي الذي تنتشر فيه المخدرات اتجاها محبذا أو محايدا على الأقل إزاء أنواع معينة من المخدرات وليس ضدا لها، ويمكن أن يكون للأسرة دور سلبي إذا ما ساد فيها أجواء التوتر والاضطراب والمشكلات المرضية والنفسية والتعرض للأذى وتعاطي المخدرات
”
أما مدى فعالية الأسرة في التنشئة والتربية بعناصرها الإيجابية والسلبية في تكوين الاتجاه نحو المخدرات أو الخمور أيضا فإن الدراسات ونتائج البحوث عنها مستفيضة تزدحم بها الكتب والمجلدات والدوريات العلمية الاجتماعية والنفسية والتربوية. ففي الأسرة يمكن أن يكوّن الآباء والأبناء نماذج سلوكية سوية، ويمكن أن تكون الثقافة الفرعية للأسرة والحي الذي تنتشر فيه المخدرات اتجاها محبذا أو محايدا على الأقل إزاء أنواع معينة من المخدرات وليس ضدا لها. وقد تشكلت أنماط التنشئة هذه في أغلب المناطق الموبوءة بالمخدرات لأسباب نفعية خاصة باقتصاديات الأسرة التي يستفيد منها جميع أعضاء الأسرة بما فيهم الأبناء بطبيعة الحال، حتى يصل إلى درجة توارث أسرار مهنة الجلب والتوزيع لدى العائلات المشتغلة بالتجارة والتوزيع. وتتشكل أيضا أنماط ونماذج التنشئة لدى الأسر المستهلكة على نفس نسق استحلال التجارة أو التعاطي.
ولقد انبثق منهج الاستحلال لأسباب تتعلق بالتناقض التشريعي نحو مادتين أخطرها وهي الخمور مغيبة للعقل وتباح تجارتها واستعمالها بمقتضى قوانين وضعية في دول عربية إسلامية. وأقلها خطرا -من وجهة نظر التجار والمتعاطين- الحشيش وتوائمه كالبانغو والقات المفتر للعقل والذي لم يرد في النصوص الدينية ما يحرمه إلا من فتاوى بالتحريم ظهرت مؤخرا. ويمثل ذلك ما أطلقت عليه في دراساتي السابقة بالفجوة الثقافية التشريعية أو التخلف الثقافى القانونى Juridical Culture Lag.
(عبد المتعال 1991 & 1996) إن مثل هذا التناقض قد يؤدي إلى تناقض مثيل له في عملية التنشئة والتربية في الأسرة التي تلوثت أجواء قيمها بثقافة التعاطي التي أشرنا إليها سلفا في العوامل الثقافية المشجعة للتعاطي عند الشباب.
وإذا كان للأسرة دورها الإيجابي في الرعاية والحماية والتنشئة والوفاء بالحاجات الأساسية البدنية والصحية والتربوية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من احتياجات مستجدة، وتأثيرها الكبير في تشكيل الاتجاهات والقيم وضروب السلوك، فإنه يمكن أيضا أن يكون لها دور سلبي إذا ما ساد فيها أجواء التوتر والاضطراب والمشكلات المرضية والنفسية والتعرض للأذى وتعاطي المخدرات. ومن أهم ما يتمخض عنه الاضطراب والتفكك الأسري هو ما يجلبه غياب الأب بسبب الانفصال بالهجر أو الطلاق أو الوفاة من مخاطر كبيرة لمشكلات وجدانية في الشخصية، كذلك افتقاد المودة والحب والتفاعل الأسري الإيجابي، وكل ذلك أو بعضه قد يسهم في مشكلات تكون إحدى آليات الهروب منها هو تعاطي المخدرات والاعتماد عليها.
ولا يعيش البناء الأسري في معزل عن الجماعات المحيطة بهم وأولها جماعة الأصدقاء والرفاق، فهم جزء غير مباشر من الأسرة. وأثبتت عدة دراسات أن تأثيرهم أكبر من تأثير الوالدين. وتبدو خطورة ذلك في تأثير بعضهم بعضا في مجال سوء استعمال المخدرات، كما وجد أحد الباحثين أن الأصدقاء أكثر تماثلا في استخدامهم للحشيش من أي نشاط آخر، لكننا نجد في حالة الأسر التي يتعاطي فيها الآباء الحشيش فإن نسب التأثير تتقارب بالنسبة للآباء والأصدقاء معا.
وتتفاقم المشكلات بشكل أكبر في الدول النامية والفقيرة عندما تؤدي أزمات الفقر المزمنة وانتشار البطالة وعمالة الأطفال العشوائية والانهيار الأسري إلى مشكلات أكثر خطورة ومنها ظاهرة التشرد وأطفال الشوارع. ووردت من هندوراس -وهي من البلدان الفقيرة- بيانات بتورط أطفال الشوارع في مشاكل مستمرة مع الشرطة وسوء استغلالهم في أنشطة جنسية وتعاطي المخدرات إلى درجة أن نصفهم يستنشقون الغراء، و4 من 10 يتعاطون الخمور في المناسبات و6 من 10 يدخنون، وواحدا من خمسة يستعملون الحشيش. ويعتبر استنشاق المواد المخدرة بين أطفال الشوارع في هندوراس من الأمور الشائعة هناك. واستنشاق الغراء هو المخدر الشعبي المحبب بين أطفال شوارع العالم النامي وذلك لرخص ثمنه وإزالته للألم والخوف والمبالغة في الاندفاع والتبجّح وكتم صراخ الجوع. واتفقت أيضا نتائج دراسات أجريت في المكسيك مع هذه النتائج الخاصة بأطفال الشوارع في بعض بلدان العالم النامي
(UNDCP)